نادي اليونسكو _ مدرسة الحسين الثانوية للبنين- بني كنانه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الثقافة والعلوم
 
البوابةالرئيسيةأحدث الصورالبريد الالكترونيالتسجيلدخول

 

 عندما تغيم الأشياء

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
safaa dagamseh

safaa dagamseh


انثى عدد الرسائل : 442
العمر : 29
العمل/الترفيه : طالبه
تاريخ التسجيل : 30/11/2008

عندما تغيم الأشياء Empty
مُساهمةموضوع: عندما تغيم الأشياء   عندما تغيم الأشياء Icon_minitimeالثلاثاء ديسمبر 09, 2008 1:51 pm


عندما تغيم الأشياء


للكاتب اسكندر نعمة


كان الغروب يوشح الكون بلونه الأغبر المائل إلى الحمرة. أدامَ النظر عبر زجاج النافذة العريضة. سرحَ إلى الأفق البعيدالبعيد. أعاده عن ذهوله صوتُها الدافئ المترقرق حناناً وعذوبة:

-.. أخذتْكَ الحياة منّي، أبعدتك عنّي إلى شواطئ غريبة لا أدركُ مداها.

التفت ماجد سريعاً وقد استبدّت به رعشة لاسعة. تأمّلها وهي تلفُّ جسدَها الممشوق بثوب حشيشي أنيق، تسير نحوه من طرف الغرفة الوسيعة بخطواتٍ بطيئة، ترفعُ إليه سحراً يتدلّى من ملامحها الجذّابة، ترمقهُ من تحت أطراف أهدابٍ طويلة فاحمة السّواد.. قالت له ثانية:

-.. لقد رحلتَ بعيداً عنّي. غبتَ في أمواج الزّمن المّر، وغيوم السائل السحري...

ظلَّ ماجد على صمته. لم يتحرك قيد شعرة، بينما موجات الرعشة تتابع توغلّها عبر جسده وأعصابه...

حدّقت فيه بنظرات متلهفةٍ افتقدها منذ زمان بعيد.. بدأ الليل يهبط أكثر فأكثر على الكون من حولهما... اقترب منها فارداً ذراعيه. مزّقته تمتمات شفتيها المكتنزتين. اقترب منها أكثر. ضغط بكلتا كفيّه القاسيتين على....... كتفيها.... انتابته رغبة مسعورة في احتضانها. ضمّها إلى صدره فأسكرته أمواج أنفاسها اللاهثة، وغاب في طراوة الجسد المتكسِّر.

كان الليل قد هبط أكثر. وأنوار البيوت القريبة قد بدأت تغزو الشوارع المحيطة فتلوّن المساءَ بألوان شاحبة حزينة..

ظلَّ واجماً لا يدري ما يقول.. ساد بينهما صمتٌ جليدي... تماوج البيت في أشباح ظلمة السماء. تملّصت ناديا بهدوء من بين ذراعيه القاسيتين. ابتعدت قليلاً واقتعدت جانب المقعد الوحيد في الغرفة الواسعة.

غمز زرَّ المصباح الكهربائي، غطست الغرفة في أمواج ضوءٍ برتقالي شاحب، أرخى الستائرَ القماشيّة على مساحات النافذتين المتجاورتين، ليمنع العيون الفضولية من اختراق أسرار الغرفة.. جلس على المقعد المعدني قريباً منها، اهتزّت أضلاع المقعد وأصدرت أنيناً حزيناً. احتضن كفها الصغيرة بين راحيتيْ كفيّهِ القويتين، داعبها برقّةٍ متناهية، غرس نظراته في عينيها المتسائلتين، وانداح صوتُه بأمواج متقطّعة:

-.. ليس باليد حيلة، أيّتها الغالية... ثقي أنني لا أستطيع بعاداً عنك.. ولكنه الفقرُ.. الزمنُ الرديء المرّ... أبعداني عنك.. أقاما بيني وبينك سدوداً من الإعياء والإرهاق والذهول...

داعبَتْ كفّها اللّدنة في حرارة كفيّه... وبالكف الثانيةِ راحت تطرد الأسى عن صفحة خدّيه وجبينه. قالت له وهي تلفح وجهه بحرارة همساتها المتلهفة:

-.. ليس الشقاءُ وحده من أخذك منّي. أنا أعلم كلَّ شيء. ما إن تلفظكَ طواحين العمل المرهق، وتضمّك جدران البيت، حتى أراك؟َ تخاصرُ الكأس، تحتضنه بحبٍّ، بلهفةٍ شبقة، تمتصُّ روحه رشفة إثر رشفة، وتذهب عنيّ بعيداً، بعيداً، إلى عوالم أخرى.

تمتم بصوتٍ خافت أجشّ:

-.. لو أنكِ تدركين يا غاليتي، ما سرُّ ذلك السائل السحري الرائع الذي يثير في النفس اللذة والرعشة والأماني.

رشقته ناديا بنظرات معاتبة، قرصت خدّه بباطن أناملها المتجوّلة:

-.. وتحتضن كأسَكَ، وتتركني اعتصر الوحدة... وأنا أنتظر عودتكَ دقيقة بعد أخرى لأخفف عنك...

أشرق وجهه، وتدحرجت من بين شفتيه كلماتٌ مبعثرة:

-.. يا لمتعة الكأس.. الكأس الأولى وتغيم الأشياء من حولي.. الكأس الثانية وتتوثّب نفسي وتنمو أشتالَ المتعةَ في أعماقي... الكأسُ الثالثة وأمتطي أمواج النسيان والأمل... الكأس الرابعة ويرحل الشقاء، ينزاح الهمُّ بعيداً بعيداً، يحلّق في آفاق مجهولة، يغدو نوعاً من أحلام مرّة عَبَرَتْ في أزمان سحيقة لا أتذكرَّها... الكأس الخامسة..

قاطعته بكلمات متوتِّرة:

-.. وبعدها تغطس في أمواج الصمت المؤلم، وتتوشّح عباءَة الذهول المقيت. تذهب كل جهودي عبثاً في أن أجعلك تكلمني أو تبتسم لي، أو تداعبني..

التقت عيناهما عند حدود اللهفة. تسمّرت النظرات المشتاقة. شعرَ أن لعابهَ قد تخثر في حلقه وعجز عن الكلام. مسح عن خدّيها دمعتين حملتا له أسراراً دفينة... تابعت خواطرَها بكلمات تحبو على شفتيها:

-.. البارحة انتظرتك طويلاً. رسمتُ في داخلي خطوطاً هلامية رقيقة. أعددتُ طعاماً شهيّاً... جئتَ أخيراً بعد أن يئستُ منك. دخلتَ البيت وفي عينيكَ شحوب المساء الجليدي. ابتسمتُ لك. همستُ لك برقّة متناهية. تجمّدتَ أمامي كتمثال من شمع. ضاعت من فمكَ كلُّ المفردات الرقيقة. نظرتَ إليَّ نظراتٍ محايدة، وتكلمت بفظاظة وقسوة... تلاشت كلُّ أحلامي بسهرة متميزة واستمرَّ الليل يهبط علينا بطيئاً وثقيلاً دونما رحمة.

تجهم وجههُ أكثر، وانداحت كلماته عبر زفير طويل:

-.. كيف لا يقسو القلب، وتخشوشن الكلمات، وكل حياتي قاسية ظالمة.. الرمل، والطين، والماء البارد... الأحجار الاسمنتيّة... الكفّان المتشققتان... صوت رئيس الورشة... الظهر الذي ينحني وينوء بالأثقال.

منذ أن حطّت الوظيفة في بوابة الفقر والشقاء، دخلتُ معها دهاليزَ القسوة والقهر والجفاف... آه يا غاليتي... الكأس الأولى وتغيم الأشياء من حولي... الثانية... الثالثة... وأنسى كل مفردات الحياة وعناصرها المتجهمة لا تظلميني أكثر...

تقوقعَ على أطراف المقعد وغاب في منعطفات ذهول مدمّر. بدت عليه ملامح مخيفة، كأنّما حزنٌ بحجم الكون حوّم في مقلتيه وسحنته، فأفرغ في روحه ونبضه كلَّ جزئيّات الفظاظة والألم والتلاشي. اتشح وجهه بنشيج صامت، وراح يغوص في شرفات الذكريات البعيدة.. غاص في الذكريات أكثر فأضاء شموع الماضي البعيد:

"أحببتُ ناديا حبّاً أنساني كل شيء. كانت الحياة ناعمة رخيّة. ما أجمل تلك الأيام.. عندما بُلغّت قرار قبولي طالباً في دار المعلمين الابتدائية، زغردت أمّي. انهالت عليَّ مقبّلةً مداعبة... قالت لي: ثلاثٌ سنوات ياولدي وتصبح معلماً، تملك راتباً محترماً، ينقلنا من مستنقع الفقر الذي خلّفه رحيل أبيك إلى ضفّة الرخاء والرفاهية.. اختزنت عواطف أمّي في قلبي... آهٍ ما كان أروعها تلك المرأة الطيبة. وتحقّقت لنا رؤيتها، أصبحتُ معلماً أقطف في مطلع كل شهر راتباً سخيّاً. عرفتُ مع أمّي وأخوتي الصغار معنى الرفاهية وسعة الحياة... عندما أحببتكِ يا ناديا كنتُ أقبض على الحياة من أطراف ضفائرها المزهرة الريانة".

شدّهُ عن متابعة التذكّر صوتُها. جاءَه هذه المرّة خافتاً يائساً كأنّما يخرج من أعماق بئر مهجورة:

-.. بتُّ لا أحتمل صمتَكَ وذهولَكَ، وخمرتَكَ التي تحاصر وجودي كلَّ ليلة.. ابنتاك الصغيرتان تشتاقان إليك. تمزّقني أسئلتهما. تبحثان عن حضنك الدافئ. تريدان باباً... وأسئلة كثيرة مؤلمة...

-.. لا تحتملين.. لا تحتملين... ماذا أقول؟؟ لستُ أدري.. من أين أجلبُ لكِ السعادة المفقودة في داخلي!!.. كانت لنا فيما مضى أيام جميلة... ترى هل كانت جميلة حقاً؟؟!! أم أنّها وهم من أوهام الحياة... يجب أن تغيم الأشياء من حولي لأشعركِ بالسعادة. بل لأنسى. أليس النسيان سعادة؟؟؟

من أين لي يا غاليتي. وروحي أنضبتها شراسة الأيام... حاولتُ مراراً أن أستلَّكِ من دوّامة الشراسة فأخفقت. نعم أخفقت... اللعنة كيف تحولتِ الأيام هكذا.. لا تذكّريني... لننسَ معاً. فالنسيان سعادة...

غرس عينيه في محيّاها من جديد. سحرته العيون الحزينة الجائعة واللون القمحيّ الجذّاب، والشفتان المنطويتان على أسرار هاجعة: " نريد طفلاً صبيّاً يترعرع بين أختيه، يملأ حياتهما. بهجة ودعابة".

ظلَّ متماهياً مع صمته. كبّلهُ الاسترخاء فأسرج من جديد صهوة الأحلام والذكريات: " أنا المقهور السائر خلف سعادة بائدة، وأمنيات مضنية... رحمةُ الله عليكِ يا أمّي سامحكِ الله يا أمّي. لماذا تمنيتِ لي أن أغدو معلماً. لقد انطوى علمُ الوظيفة. أعذرُكِ فما كنتِ تتصورين أن الحياة ستنقلب رأساً على عقب، وأن الوظيفة ستغدو جزءاً من محطّات القهر والفقر والحاجة. وأنّني سأضطّر إلى أن أعمل بعد دوام المدرسة في ورشات البناء والعمران.. رئيس الورشة يسبُّ ويشتمُ.

وأنا أحرقُ أعصابي وجسدي في أتونَ الشقاء. أنتظرُ الراتب والأجور الهزيلة التي تخلصني من ذهول الحياة وقسوتها. من شبح لوائح الأسعار الجهنميّة. من مخاوف توسّع العائلة وازدياد عدد الأفواه الجائعة.. أين الملاذ من هذا اليمِّ الذي لا شواطئَ له والذي يعجّ بالحيتان المفترسة.. أعذريني يا ناديا، إنك تحكمين عليَّ بقسوة. تصفينني بالفظاظة والخشونة والبعد عنكِ... ما أزال أحبّكِ يا ناديا. يجري حبُّكِ عبرَ شراييني المتضيقة ونبضاتي الرهيفة. ولكن، ما فائدة كل هذه الأشياء.. ما فائدة الحب والجسد، عندما يستبدُّ القهر والخيية... آهِ... كيف أجعلكِ تدركين ذلك.. أجل يا ناديا... يجب أن تغيم الأشياء... الكأس الأولى وتغيم الأشياء.... الكأس الخامسة ويمضي القهر إلى الجحيم...


***

بعد الظهيرة غادر المدرسة. التحق بالورشة، وعند المساء عاد إلى البيت شجرة يابسة محنيّة الأغصان. استقبلته ناديا بابتسامة تملأ الوجه، أنستهُ كثيراً من آلام اليباس في روحه وجسده. ركنَ إلى الصمت كعادته.

اقتربت منه بتوجّسٍ واضح، مدّت أصابعها الناعمة بهدوء وداعبت خصلات شعره المبعثرة. أحسَّ بدفءِ الأصابع فاسترخى متكوراً داخل ذاته كعصفور متعب الجناحين. انزلقت الأصابع الدافئة الحنونة إلى أذنيه وعنقه، حطّت على صدره، أحسَّ بارتباك الأصابع وهي تغوص في كثافة شعر صدره.

أمعن في جلسته المتراخية، تابع التحديق الذّاهل في العينين الواسعتين والشفتين العذبتين... همست بنداوةٍ آسرة: "أريد طفلاً أخاً لطفلتينا...".

داعبَ شعرها بعصبيّة مثيرة. تأمّلها طويلاً. الملامح الدقيقة التكوين وسمرةُ الوجه التي أضاءَت عتمة الغرفة... الكأس الأولى وغامت كل الأشياء.. الكأس الثانية وتلاوحت أشتال الحب والأمل... استعادت الشجرة اليابسة طراوة أغصانها. تبخّرت كل الخواطر الشرسة وتلاشت في الضوء المتساقط من نور عينيها... تحوّل الشقاء إلى حلم قديم، غبار منسيّ، غرق في مياه الماضي الجميلة الدافئة... تذكّر تلك الأيام. استعاد طعم شفتيها في تلك الأيام البعيدة، وخاضَ في شلال مياهها العذبة، فيما كانت الأنفاس اللاهثة تعطّر وجهيهما بأريج خَدَرٍ ممتع.. لم يكن يدري أهو في حلم أم حقيقة. حلّقت تصوراته على متن أبخرة بنفسجيّة، كفٌّ تعتصر الكأس وأخرى على الخاصرة، وهواجس ترسم على صدره لوحاتٍ سريالية غامضة.

قبل انبثاق الفجر، استفاق ليجد نفسه ممدَّداً إلى جانبها وهي تغطُّ في نومٍ هادئ عميق. وألقٌ نورانيٌّ يشعُّ من وجهها، يضيءُ ملامحَ الرضاء والبهجة المتألّقة.. أدام النظر إليها طويلاً.. تمتم بكلمات مبهمة،... وطوّقها بذراعيه مستسلماً لدفءٍ سرمديّ أصيل...

عندما أغمض عينيه لتغيم الأشياء من حوله، استبدّت به صورة آسرة، ملوّنة الأطياف... المدرسة، والورشة، وأسرة مؤلّفة من خمسة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://dagamseh.own0.com
 
عندما تغيم الأشياء
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» إن اعطاك الله احد هذه الأشياء فا اعلم انه يحبك
» عندما وجد اسمه في القران
» ماذا يحدث عندما نموت؟
» عندما عصى الشيطان الله مـَنْ كان شيطانه؟
» لماذا لا تضحك عندما تدغدغ نفسك؟؟؟؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
نادي اليونسكو _ مدرسة الحسين الثانوية للبنين- بني كنانه :: الهوايات :: القصص والروايات-
انتقل الى: